من تاريخ المدارس في الحضارة الإسلامية
Genel Arapça | Üst-ileri
نَعنِي بالمدارس هنا الدُّورَ المُعَدّة لإيواء الطُلّاب، المجهَّزةَ بكل ما يحتاجون من أرزاق ومعاش، القائم على الأمر فيها أئمة من أرباب العلوم، متفرِّغون للتدريس والتعليم.
وإذا كان من العسير تحديد تاريخ دقيق لنشأة هذه المدارس في الحضارة الإسلامية، فإنه من الواضح أنها بدأت في الظهور منذ أواسط القرن الرابع الهجري.
يقول المقريزي: “ولما أراد الخليفة المعتضد بالله (تولَّى الخلافة سنة 279) بناءَ قصره في الشمّاسية ببغداد، استزاد في الذرع (أي في المِساحة) بعد أن فرغ من تقدير ما أراد، فسئل عن ذلك، فذكر أنه يريده ليبنيَ فيه دُورا ومساكن ومقاصير (حُجَرا منفردة)، يُرَتِّب في كل موضع رؤساءَ كلّ مذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويُـجْري عليهم الأرزاق، ليَقْصِدَ كلُّ من اختار علما رئيسَ ذلك العلم، فيأخذ عنه…
وأوّل من حُفِظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نَيْسابور (مطلع القرن الرابع الهجري)، فكانت فيها المدرسة البَيْهَقِيّة والمدرسة السعيدية، ومدرستان أخريان لأبناء سُبُكْتِكِين السلاطين.
وأشهر ما بُنِيَ في القديم المدرسة النِّظاميّة ببغداد، لأنّها أوّل مدرسة قُرِّر فيها للفقهاء معاليم (أرزاق ومرتّبات)، وهي منسوبة إلى الوزير نظام المُلْك أبي عليّ الطوسيّ، شُرِع في بنائها سنة سبع وخمسين وأربعمائة، واكتملت في ذي القَعْدة سنة تسع وخمسين وأربعمائة، ودرّس فيها الشيخ أبو إسحاق الشيرازيّ الشافعي” (1).
ومنذ منتصف القرن السادس الهجري بدأت المدارس، في مختلف الفنون والعلوم، تنتشر في الحواضر الإسلامية انتشارا كثيفا، وكان في دمشق وحدها “مدارس لتعليم الطب والصيدلة والكِحَالة (طب العيون) ومدرسة للهندسة يتخرج فيها المهندسون والبناؤون” (2).
وفي منتصف القرن السابع شيّد الخليفة العباسي المستنصر بالله (تولى الخلافة سنة 623) المدرسة المستنصرية ذات الصيت الخالد، قال عنها المؤرخون:
“بُنِيَتْ على الجانب الشرقي من دجلة، وما بُنِيَ على وجه الأرض أحسنُ منها، ولا أكثر أوقافا!
وكان ابتداء عِمارتها في سنة خمس وعشرين وستمائة، وتمت في سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ونُقِلَت إليها مائة وستون حِمْلا من الكتب النفيسة، وكان فيها 248 فقيها من المذاهب الأربعة، وأربعة مدرسين، وشيخ حديث، وشيخ نحو، وشيخ طبّ، وشيخ فرائض، ورُتّب فيها الخبز والطِّبّيخ (البِطّيخ)، والحلاوة والفاكهة، وكان فيها مارستان (مستشفى)، ومطعم للفقهاء، ومُزَمَّلَةٌ (وِعاء من خَزَف) للماء البارد، وحمّام صحّي” (3).
وكان لهذا النوع من المدارس نُظُمٌ وتقاليدُ راسخة؛ فكان الطلبة يدرسون أشهرا مخصوصة، ثم يمتحنون فيما درسوا، ولا ينال الإجازة إلا من تثبُت براعته وكِفايته (4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي، دار الكتب العلمية، ج 4 ص 199 (بتصرف).
(2)،(4) خطط الشام لمحمد كرد علي، مكتبة النوري بدمشق، ج 6 ص 67-69 (بتصرف).
(3) تاريخ الخلفاء للإمام السيوطي، وزارة الأوقاف القطرية، ص 702-703 (بتصرف).